العراق، لبنان: أوجه التشابه والتأثيرات المتبادلة كساحات نزاع إقليمية

العميد م. ناجي ملاعب

تعيش منطقة الشرق الأوسط منذ الاجتياح الأميركي للعراق حالة أشبه بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وبين ايران وحلفائها من جهة أخرى. بالرغم من أن العداء الأميركي- الايراني يعود الى تاريخ سقوط نظام الشاه اثر انتصار الثورة الاسلامية في ايران عام 1979، الا أن المواجهة بين الطرفين أخذت بعدا تصاعديا واقليميا بعدما اجتاحت الجيوش الغربية بقيادة أميركية كلا من أفغانستان والعراق، واضعة ايران بين كفي كماشة وفي الوقت عينه مزيلة نظامين كانا يعتبران الأكثر عداء للجمهورية الاسلامية الايرانية وهما نظامي طالبان وصدام حسين. ودفع ازدياد الشعور بالتهديد الأميركي- الغربي  طهران الى شن هجوم مضاد متمثل بتأسيس أو تبني حركات وأحزاب تعارض العولمة والفكر الغربي وتؤيد المقاومة لاسرائيل، انما ضمن استراتيجية تخدم المصالح الإيرانية اقليميا ودوليا.

لقد ساعد التواجد الشيعي المهم في كل من العراق ولبنان، ايران على اختراق هاتين الساحتين لمواجهة الأطراف الحليفة للغرب فيهما، وبالتالي تحويلهما لجبهات مواجهة في الحرب الباردة ضد أميركا والغرب، ولم يزل تأثير التواجد العسكري والسياسي في سوريا على صورة منظمات يقودها الحرس الثوري الإيراني – بالرغم من الدور الروسي في دعم النظام  – على أشده. كما ساعد التشتت والانقسام على الساحة الفلسطينية وانهيار عملية السلام وتراجع الدور العربي، ساعد طهران، كذلك، على فتح ثغرة دخلت من خلالها الى ساحة الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي عبر التحالف مع حركتي حماس والجهاد الاسلامي. وبالتالي أصبح لايران دور أساسي في مسار القضية الفلسطينية حيث غدت غزة جبهة من جبهات الحرب الباردة – بالوكالة –  بين طهران وواشنطن. ويشكل طموح ايران النووي معضلة للغرب واسرائيل وبعض الدول العربية مما يزيد من تعقيد الأمور. كما أن البعد الشيعي- الفارسي لهوية ايران أضاف بعداً جديداً للصراعات في المنطقة؛ بعداً اثنياً- طائفياً (عربي- فارسي، وسني- شيعي) مما زاد من التوترات المذهبية، بشكل عام، وفي جبهات المواجهة بشكل خاص، وتحديدا لبنان والعراق إضافة الى سوريا واليمن.

هذا كان وجه الشبه من ناحية التدخلات الخارجية وارتباط الأزمات على الساحتين اللبنانية والعراقية بالصراعات الدولية القائمة بين ايران والغرب. الا أن للبنان والعراق (ما بعد صدام حسين) أوجه تشابه على صعيد الأنظمة الداخلية فيهما وتركيبتهما السياسية، والتي بدورها تؤثر تداعياتها على الأوضاع في المنطقة ومستقبلها.

ومع إنهاء حكم صدام حسين والعنف المرافق لعملية إعادة بناء العراق على أسس ديمقراطية يعود مصطلح “اللبننة” للتداول مقترنا هذه المرة بإسم العراق. فما هي الأبعاد التي يدل عليها استعمال هذا المصطلح؟ وما هي أوجه الشبه بين العراق ولبنان؟ وكيف للعراق أو أية دولة أخرى تشبه بتركيبتها الإجتماعية المجتمع اللبناني أن تستفيد من التجربة اللبنانية؟ وهل تلك التجربة مثال يحتذى أو مشكلة يُحذّر منها؟

أولاً: مصطلح “اللبننة” والأبعاد الثلاثة للتجربة اللبنانية:

البعد الأول يتعلق بصيغة الديمقراطية التوافقية التي اعتمدها لبنان منذ استقلاله، والتي عدّها كثيرون على مدى عقود مثالاً في التعايش السلمي بين جماعات غير متجانسة ضمن حدود الدولة الواحدة، وأنها العامل الأساسي في تحصين لبنان ضد قيام دولة سلطوية كما حصل في باقي البلدان العربية.

وتعلق البعد الثاني بسهولة الإنجرار الى مواجهات عسكرية وحروب أهلية بين تلك الجماعات حين يطغى الإنتماء والولاء للجماعة على الإنتماء والولاء للدولة. وتجدر الاشارة الى أن الحروب الأهلية التي شهدها لبنان (والعراق) كانت مدعومة من جهات اقليمية ودولية بما يخدم مصالحها. فكل طرف سياسي في العراق ولبنان لديه راعي (أو رعاة) اقليمي ودولي يزوده بما يحتاجه من دعم سياسي ومالي وعسكري.

أما البعد الثالث فيؤكد أن بناء الدولة الديمقراطية القوية الحاضنة لإبنائها الضامنة لحقوقهم شرطاً ضرورياً لنجاح أية صيغة توافقية بين جماعات غير متجانسة، والحصانة الوحيدة ضد التدخل الخارجي تحت غطاء الدفاع عن الجماعات في الداخل.

فما هي الصيغة التوافقية التي اعتمدها اللبنانيون عام 1943 وعُدّلت عام 1990 (بموجب تعديل دستوري إثر اتفاق الطائف) وهل فشلت حقاً في تحقيق الأهداف المرجوة؟

لا يمكن اختصار عدم التجانس بين الفئات المكوّنة للمجتمع اللبناني لمجرّد انقسام اللبنانيين بين دينين وتوزع كل منهم على عدد من الطوائف والمذاهب ضمن الدين الواحد؛ إذ يكمن عدم التجانس في المنطلقات الدينية والعقائدية لكل من تلك الجماعات وانعكاساتها على مفهوم الدولة والسلطة والنظام السياسي ومرجعية الدستور والقوانين، كما يكمن في نظرة كل منهم الى الآخر. ففي الإطار العام هناك اختلاف جذري في نظرة كل من الإسلام والمسيحية الى علاقة الدين بالدولة، وهناك اختلاف جذري في النظرة الى مكانة وموقع الآخر. فالدين الإسلامي يقوم على عدم الفصل بين الدين والدولة، كما يصنف البشر في فئات ثلاث: اهل الكتاب وأهل الذمة وأهل الكفر. ولهذا يمكن استعمال تعبير “العقيدة التي تقوم على استثناء الآخر” (Exclusionary Ideology) لوصف هذا الموقف من غير المسلم. وبالتالي، تصبح إمكانية تطبيق العلمنة أو الديمقراطية العددية صعبة في المجتمعات التي تضم مسلمين ومسيحيين دون إثارة مخاوف كل منهما من إمكانية الذوبان في الآخر والخوف على البقاء، وبخاصة ان هذه المخاوف غير محصورة في إطار الصراع على السلطة السياسية ولكنها تنسحب على الحريات العامة ونمط العيش بأدق تفاصيله.

وتظهر التجارب أن فرص نجاح العلمنة ( سياسيا وإجتماعيا) أو شبه العلمنة لم يكن ممكنا أو أكثر سهولة في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة إلا في ظل تواجد مؤسسة عسكرية تحظى بمباركة دولية قادرة على فرضها بالقوة (تركيا مثلاً خلال الحرب الباردة) ، أو في ظل أنظمة ديكتاتورية اعتمدت شبه العلمنة السياسية شعارا لتغطية حكم الأقلية للأكثرية عبر هيمنة الحزب الواحد كالعراق (صدام حسين) وسوريا (حافظ الأسد) وليبيا (معمر القذافي) وغيرها.

في الواقع اللبناني، هنا، تبرز الإشكالية الأهم التي تتعلق بمفهوم الدولة ونوعها والعوامل الفاعلة في تقرير حدودها. وتنبع من الإستعمال الترادفي لمفاهيم الدولة ((State والوطن ((Nation والدولة القومية أو الدولة الأمة. فهل المطلوب بناء دولة بمفهومها السياسي المؤسساتي والتي تضم داخل حدودها فئات مختلفة الإنتماءات الدينية والإثنية ويجمع بينها رابط المواطنة وما يستتبعه من مساواة في الحقوق والواجبات، ام المطلوب بناء الدولة القومية أو الدولة الأمة بما يحمله هذا من مضامين مشحونة عاطفيا ودينيا وطائفيا في العالمين العربي والإسلامي؟ وفي هذا الخيار يكمن التشكيك والطعن بحق لبنان أولاً في الوجود كدولة مستقلة آمنة؛ سواء في ممارسة سياستها الداخلية وفق دستورها وقوانينها أو إستقلالية سياستها الخارجية بعيدا عن ضغوط وسياسات الدول التي تمثل امتدادا للطوائف المكونة لها، وفي هذا بوادر انكشاف الصراع على الهوية من الباب العريض؛هوية لبنانية، أي هوية الدولة الجامعة لجميع أبنائها على اختلاف إنتماءاتهم، أم هوية عربية مشحونة بمضامين دينية.

وغالبا ما يجري انتقاد الصيغة التوافقية اللبنانية تحت شعار عدم ديمقراطيتها. والسؤال هو ما هي الديمقراطية؟ في التعريف الأشمل الديمقراطية هي حكم الشعب، بواسطة الشعب ولمصلحة الشعب. وفي جوهر هذا التعريف مقوّمات لا بد منها لكي تتحق الديمقراطية. وهذه المقومات هي: أولا، الحاجة الى أن يلبي أي نظام يُعتمد حاجات الشعب بتعاطيه مع واقع المجتمع ليضمن أمن وسلامة ورفاهية أفراده وبالتالي استمراره. وثانيا، لا يمكن للديمقراطية أن تنمو وتترعرع ضمن منطق الربح المطلق لأية فئة على حساب الفئات الأخرى المكونة للمجتمع. ويصح هذا في المجتمعات المتجانسة وغير المتجانسة على حد سواء. وبالتالي قد تكون الديمقراطية العددية في المجتمعات غير المتجانسة غير ديمقراطية، بمقدار عدم ديمقراطية حكم الحزب الواحد أو هيمنة حاكم واحد في مجتمع غير متجانس.

 ونشير هنا الى ان تطبيق النموذج الغربي للديمقراطية غير ممكن بسبب اختلاف مستوى النمو السياسي والثقافي والإقتصادي. فتطبيق النموذج الغربي يفترض توفر بعض الشروط الضرورية والكافية وبخاصة ما يتعلق منها بمستوى النمو. وهذه الشروط لم تأت من العدم، أو فرضت بالقوة في الغرب، بل جاءت أولاً نتيجة تطور تاريخي لعملية بناء الدول الغربية عبر مرحلة زمنية طويلة، وهي مرحلة يفتقدها لبنان كما معظم بلدان العالم الثالث.

صحيح ان الصيغة التوافقية في لبنان تعلي شأن الطائفة على حساب الفرد، وهذا غير ديمقراطي لأنه يحصر المواطنة بالإنتماء للطوائف المعترف بها وحرمانه من خيار المواطنة خارج إطار الطائفة. فإذا توافر خيار المواطنة سيكون الإلتزام بالطائفة خياراً حراً لا خياراً مفروضاً، وينتفي النقد للصيغة على اساس إعلاء شأن الطائفة على حساب الفرد.

1- لماذا نتكلم عن “لبننة” العراق اليوم

كما يكثر الحديث حالياً عن “عرقنة” لبنان، وذلك للدلالة على إمكانية نشوب “مناكفات” مذهبية بين الطائفتين السنّية والشيعية على غرار ما حصل في العراق – على الرغم من الإختلاف الكبير على مستوى تصور مفهوم الأمة والهوية والإنتماء السياسي الذي كان وراء قيام لبنان والعراق ككيانين سياسيين مستقلين غداة انهيار السلطنة العثمانية.

في لبنان، منذ الميثاق الوطني عام 1943 جُعلت الهويات الطائفية من أسس نظام الديمقراطية التوافقية، الأمر الذي جمد النظام السياسي ضمن إطار التمثيل الطائفي. كما اثبتت هذه الصيغة من خلال الممارسة عجزها عن تقوية الهوية الوطنية وعن إصلاح النظام وتطويره بأساليب سلمية. أما في العراق، كما في أكثرية البلدان العربية فقد جرى تثبيت الهوية الوطنية مكان الإنتماءات دون الوطنية، دينية كانت أم إثنية أم قبلية. وعلى الرغم من ذلك، لم يؤد بروز هوية وطنية شاملة والأخذ في مبدأ العلمنة الى التماسك الوطني المنشود، إذ بقيا أسيري حالتين: الحالة الدينية، حيث الشرع الديني هو على الأغلب المرجع الأساس لمجمل الدساتير العربية، والحالة الطائفية، حيث تسيطر فئة معينة تحت شعارات ومسمّيات برّاقة (قومية – ثورية – وطنية … ) لكنها في الواقع تستأثر بمقدّرات السلطة للطائفة التي تنتمي إليها. ويمكن اختصار طرح هذه الإشكالية بصيغة أسئلة ضمن مجموعتين:

 أولاً، هل يمثل الإعتراف المؤسسي والقانوني والسياسي بالهويات الطائفية والإثنية، والأخذ في مبدأ الفيديرالية وفي تقسيم الثروات العامة شروطاً اساسية لتكوين هوية مشتركة مبنية على عقد سياسي يضمن الوحدة الوطنية؟ أم أن اقتصار التمثيل السياسي والتعددية على تمثيل الهويات الدينية والإنتماءات الطائفية يساهم في تفكك الجسم السياسي وتفجيره؟

 ثانياً، ضمن أي حدود تشكل الديمقراطية التوافقية رادعاً أمام الهيمنة والإنحراف التسلطي لبعض الأنظمة، وتؤمن التوازن الطائفي والسياسي على المستوى الوطني؟ وعلى صعيد آخر، ألم تمثّل هذه الديمقراطية التوافقية، تحديداً، العائق الأساسي أمام تطور النظام السياسي في لبنان؟ وبما أن النظام التوافقي يقوم على المساومة بين النخب السياسية و/او الطائفية، هل نحن فعلاً أمام أزمة التوافقية؟ ام ان الأزمة هي أزمة قيادات ونخب سياسية و/او طائفية؟ هل تلك النخب هي من افرغت  النظام التوافقي من محتواه ومن قدرته على إدارة وتنظيم الصراعات والتنافس داخل المجتمع بأسلوب سلمي ولا عنفي؟ وماهي شروط التطور السلمي لنظام الديمقراطية التوافقية نحو نظام الديمقراطية الأكثرية؟  وأخيرا، هل يمكن لأي معادلة لانهاء الصراعات في كل من لبنان والعراق وتعزيز المواطنة والمؤسسات فيهما أن تتحقق مع استمرار النفوذ الخارجي فيهما؟ هل سياسة الحياد عن النزاعات الاقليمية ممكنة وضرورية لاستمرار الأمان والاستقرار فيهما؟ 

 وللإجابة على بعض هذه الاسئلة لا بدّ من العودة الى تاريخ الدستور اللبناني العريق: نشأته ومراحل تعديلاته. ففي منعطف تاريخي يعود الى عام 1864، جرى نقل لبنان من وصاية الدولة العثمانية الى وصاية الدول الاوروبية الست، ومن سلطة الأمير السنّي الى متصرف مسيحي غير لبناني ووكيل متصرف ماروني ومجلس إدارة يمثل كافة الطوائف اللبنانية، في ما عرف بنظام المتصرفية.

وعندما جاء الانتداب الفرنسي الى لبنان عام 1920 وأنشأ الدولة الجديدة التي أرست حدودها الكيانية، حاول هذا الإنتداب ان يعمم النظام المدني بوجه عام في جميع نواحي الحياة، لكنه رضخ في نهاية المطاف لمعادلة تحفظ مصالحه وتحقق التعايش مع موروثات المجتمع التقليدي وتكرّس مجدداً نظاماً للحقوق المدنية والسياسية يقوم على ازدواج واضح بين الطائفي والسياسي وبين المدني والديني. وكان اول دستور للبنان في ظل الانتداب عام 1926 والذي حافظ على رئاسة الدولة للطائفة المسيحية. ومع انهاء الانتداب واستقلال لبنان دخلنا مرحلة دستور 1943 الذي رافقه اتفاق بين الطوائف اللبنانية عرف بالميثاق الوطني وجرى بموجبه توزيع الرئاسات الثلاث بما هو معروف بين تلك الطوائف.

وبعد اهتزازات أمنية خطيرة على الكيان دخل لبنان مرحلة حروب متلاحقة ما بين جماعات طائفية قلقة على السيادة وجماعات طائفية اخرى تتوق إلى تحقيق امتيازات جديدة توافق احجامها، انتهت باتفاق اعضاء البرلمان اللبناني المجتمعين في الطائف عام 1989 الى ما عُرف بوثيقة الوفاق الوطني، ولم يتأخر المشرّع اللبناني في ادخال تلك الوثيقة كاملة في تعديل دستوري عام 1990. ودون الإشارة إلى الإصلاحات فيها، نلاحظ أن الوثيقة كرّست طائفية الرئاسات الثلاث، كما نصّت على ضرورة انشاء الهيئة العامة لدرس الغاء الطائفية السياسية التي لم تنشأ حتى الآن رغم وجوب التقيد بمدة زمنية وفق ما نصت عليه.

في ظل هذا التطيّف، ليس سرا إذا قلنا أنّ للطوائف في لبنان مؤسساتها الإجتماعية والإقتصادية والتعليمية، وأحزابها وجمعياتها الشبابية والنسائية، ودور أيتامها وحضناتها وحتى مراكز علاج واستشفاء، وصولا إلى الجمعيات الكشفية.

وبعد هذا الواقع، نرى أنّ جميع من يتعاطى الشأن العام في لبنان وأينما سنحت له الفرصة للتكلم ومن على أي منبر، يتكلم عن الديمقراطية. أية ديمقراطية تلك التي لا يوجد لها ديمقراطيون. وحيث أن لبنان جمهورية برلمانية، وفق وثيقة الوفاق الوطني، فإن الإنتخابات النيابية هي التعبير الاساسي للمشاركة السياسية فيه. وبخاصة فإن نواب الأمة هم ممثلو الشعب في انتخاب رئيس الجمهورية وتسمية رئيس الحكومة واعطاء الثقة لها، وفي عقد المعاهدات وكافة قضايا التشريع. وحيث أن الانتخابات ليست هدفاً بحد ذاتها لكنها جزء من عملية المشاركة ومداورة النخب وتنافسها والمساءلة التي تكون اساسا لتطوير الأفكار الجديدة والقيادات الجديدة، ولخلق الروابط بين الشعب الذي هو مصدر كل السلطات من جهة وبين الدولة من جهة آخرى.

تلك المشاركة هي علامة النظام الديمقراطي الفاعل والمتحرك. وكما أكدّ كبار الإقتصاديين وخبراء التنمية فإنّ المشاركة والمساءلة هي أساس التنمية المستدامة وتفعيل دينامية الفرد والمجتمع وحريتهما وإبداعهما بوجه عام.

أخيراً فإنّ النظام الانتخابي الأكثري والمناطقي يؤدي إلى انتاج وتكريس زعماء الطوائف ويبدو النواب فيه موظفون لدى الإقطاع السياسي الذي انتجهم. لذلك فإننا ندعو لأن يتوافق اللبنانيون على تطبيق مندرجات الإصلاح السياسي الواردة في تعديلات الطائف، والتي تقضي بتأليف هيئة بحث إلغاء الطائفية السياسية وصولاً الى اعتماد مجلس نيابي منتخب من خارج القيد الطائفي، وحفظ حقوق الطوائف في مجلس شيوخ منتخب تتحدد صلاحياته بتأمين اسس العيش المشترك المنشود. وبذلك يخطو لبنان، باعتقادنا، الخطوة الأولى نحو الانتماء الى الهوية – الوطن ويبدأ أبناؤه تعلّم ممارسة  الحريات والحقوق والواجبات، وبالتالي يمكنه بناء الدولة القوية المستقرة. 

2- الهوية الوطنية الجامعة المدخل الوحيد الحقيقي لبناء الدولة

أمام تصاعد الأزمات الطاحنة الاقتصادية – الاجتماعية والسياسية والاستراتيجية التي لامست ادارة الدولة بكاملها، يبدر الى الذهن التساؤل الداهم هل تنحو الدولة نحو التفكك والإنحلال، فيزول لبناننا جغرافياً عن الخريطة ويتشتت شعبه بين فكي المَهاجر والمَنافي وبين الحروب الأهلية البربرية المُتجددة؟ أم أنه لازال ثمة أمل بمستقبل للبنان الوطن؟

100 عام منذ لحظة إعلان قيام “دولة” لبنان الكبير (وليس إعلان لبنان الكبير) بكل ما حفلت به هذه الحقبة من تحولات كاسحة في السايكولوجيا الاجتماعية، ومسألة الانتماءات، وموازين القوى على إيقاع الحروب الأهلية والساخنة كما على تجارب التعاون المشترك والتفاعلات المجتمعية، أفرزت معطيات جديدة تسمح بالقول أن الفكرة الوطنية اللبنانية وُلدت وباتت حية وتركل وتتمتع بالقدرة على خوض معركة البقاء بنجاح.

لكن ومع ذلك، ما يجري الآن تحت سطح تاريخ لبنان الراهن وفوقه، يدل على فوضى فكرية – سياسية ومنهجية عارمة حول كيفية إخراج هذه الفكرة من حيز الإمكان إلى مجال التجسّد، أو من حيز القوة إلى حيز الفعل كما يقول الفلاسفة. وهنا، المدخل، أو المنهج، لهذا الإخراج سيكون حاسماً في تقرير مصيرها.

حتى الآن، كان واضحاً للعيان أن مدخل الإصلاح السياسي المباشر كان يرتطم، ولا يزال، بممانعة سلطات سياسية متعاقية من كل الطوائف تجد مصالحها المشتركة (وهي مشتركة بالفعل) في تأبيد الوضع الراهن على رغم كل كوارثه وانهياراته. لا بل قد لا نبالغ إذا ما قلنا أن هذه الطبقة تضع في أولى أولوياتها استراتجية “الحرب الدائمة الأهلية” الباردة كما العنيفة في كل حين تشعر فيه أن هذه المصالح باتت في خطر، أو أن قبضتها الإيديولوجية على مجتمعاتها المحلية تتراخى.

هذا لا يعني أن هذه الطبقة تقع خارج تخوم المجتمع، إذ هي في صلبه وتبني هيمنتها (وحتى شرعيتها الشعبية) على جملة واسعة من العوامل السايكولوجية على غرار الخوف، والذاكرة الجماعية (الداكنة عادة)، والصراعات الوجودية، والأهم على: الرؤية المحددة للتاريخ الذي تنتقيه بعناية لترسيخ هذه الهيمنة. ولذا، ليس كافياً أن يتم قطع رأس هذه الطبقة، لأننا سنبقى حينها مع الجسد المأزوم والسقيم لمجتمعنا.

بكلمات أوضح: التمزقات الناجمة عن السايكولوجيا والتاريخ في الاجتماع اللبناني، هي أهم وأبرز عائق أمام تبلور الهوية الوطنية الجامعة، التي هي المدخل الوحيد الحقيقي لبناء الدولة الوطنية الأخلاقية- القانونية، ولتطوير استراتيجية وطنية مشتركة تستطيع تحريك المجتمع وتجاوز هذا العائق وصولاً إلى الإصلاح السياسي، بالتركيز على إيجاد حلول عملية وواقعية وفكرية لهذه التمزقات السايكولوجية والتاريخية، وهذا يتطلب:

أ – الانطلاق من تجارب المائة سنة كأساس مرجعي أساسي للتاريخ اللبناني، على أن يترافق ذلك مع استعادة التاريخ الحضاري الأبيض والعريق للبلاد منذ زينون الرواقي إلى فؤاد شهاب مروراً بكل الحضارات والأديان.

ب – العمل على تحويل “حب الوطن”، الذي بات راسخاً بالفعل لدى كل جموع اللبنانيين، إلى حب كل مواطني الوطن، ما سينقل سايكولوجيات المجتمع من سجن الخوف والشك والكراهيات إلى رحاب الثقة والأمل والحب.

وحينها سيكون بالإمكان بلورة حب الوطن والمواطنين إلى مشروع سياسي يتمحور حول قيام الدولة الوطنية الأخلاقية والقانونية والعادلة والمنتجة اقتصادياً، التي يعاد في سياقها الاعتبار إلى عوامل القيم الأخلاقية والضمير (الذي اخترعه المشرق للمرة الأولى في التاريخ)، وهي العوامل التي تعمل الطبقة السياسية على تدميرها بدأب عبر تحويل كل خلاف أو اختلاف إلى اختبار للقوة الطائفية وموازين القوى.

وثمة نقطة ثانية لا تقل أهمية، تتعلق هذه المرة بالانقلابات العلمية الهائلة التي يشهدها العالم الآن بفعل العولمة والثورة التكنولوجية الرابعة. البحث يطول حول مضاعفات هذه الثورة، لكن ما يهمنا هنا هو تأثيرها على مسألة الهوية الوطنية في لبنان. فالشباب اللبناني، كما العالمي، المنغمس حتى أذنيه في لجج هذه الثورة، يجد نفسه محلّقاً فوق الجغرافيا والتاريخ وكل أنواع الإنتماءات حين يكون في هذا الفضاء الافتراضي المفتوح، ثم يعيش التمزقات المؤلمة حين يعود إلى الفضاء الداخلي الواقعي المُغلق والمشتت ذي الأفق المسدود.

 الهوية الوطنية هنا تصبح فائقة الأهمية، لأنه، وبالحلول الجامعة التي تطرحها على كل الصعد السايكولوجية والفكرية والرؤى الاقتصادية والاجتماعية، هي وحدها القادرة على تثبيت الشباب على أرض وطنهم، وعلى إقامة التوازن بين عالمية لا مفر منها وبين محلية هي المنقذ الوحيد من ضلال الضياع في فضاء السيل الاستهلاكي الجارف للعولمة.

في الختام، الهوية الوطنية اللبنانية، المنفتحة على العروبة والمشرق المتوسطي والعالم، لم تعد ترفاً فكرياً أو نزعة مثالية، بل هي كما أسلفنا باتت المدخل الوحيد لإنقاذ الوطن واخراجه من لعنة الحروب الأهلية الدائمة، والتهجير المتواصل، والضياع الوجودي. فأن تتمسك بالهوية الوطنية باتت توازي “أنا موجود”، والعكس صحيح.

ثانياً: في مقاربة الواقع العراقي

1 – فشل النخب السياسية في ترجمة نموذج توافقي لإدارة الدولة

 بعد انهيار نظام صدام حسين في 9/4/2003 فإن الصراع الدائر اليوم يخضع الى نمطين مركبين من التعديل:

أ- إنه يخضع لـ “دمج طائفي” بتوحيد كل التنويعات الممكنة في خطاب طائفي: توحيد شيعة الجنوب الريفيين الفقراء بالأرستقراطية والبرجوازية الشيعية في النجف وكربلاء والكاظمية، وتوحيد سنّة الحواضر الذين أسسوا البيروقراطية العراقية في العهد الملكي بابناء عشائر الغرب والوسط.

 ب- إنه بالتالي، يؤدلج؛ أي يحول الى صراع ذي نمط إيديولوجي بين شيعة وسنة، وهي الطريقة التي يكتسب بها هذا الصراع معنى، من دون أن يبقيه فارغ المعنى.

لقد أصبح كل فرد عراقي، في هذه اللحظة المعقدة، بحاجة الى التعبير عن هويته الطائفية، بطريقة لا تحتمل اي معنى آخر للهوية. هذا الدمج الأيديولوجي والطائفي والإجتماعي أتاح تذويب الشيعة في نخبة تنتمي الى الإسلام السياسي وتذويب السنّة في القوى الجهادية الإسلامية.

في عذاب التاريخ هذا، كُتب دستور العراق الدائم الجديد عام 2005 لينجز جردة حساب مع الماضي، انطلاقاً من رؤية سياسية تاريخية، وهي ان النظام السياسي الذي أُنشيء في مطلع العشرينات من القرن الماضي انتهى الى نظام تسلطي تحتكره نخبة من إحدى الجماعات العراقية (المقصود هنا السنّة) التي هي أقلية ديموغرافية قياسا على الجماعات العراقية الأخرى؛ حدث هذا الإحتكار بسبب الطابع المركزي لنظام الحكم، وبالتالي يحاول هذا الدستور ان يمنع تكرار مثل هذا الإحتكار، من خلال صوغ عقد شراكة سياسية أو توافق سياسي يتضمن – على نحو أساسي – إعادة تصّور الحكم المركزي بتوزيع السلطة عبر النظام الفيدرالي ونظام الإدارة اللامركزية، وتوزيع الثروات التي كانت دعامة أساسية لنشوء النظام التسلطي المركزي.

فشلت النخب السياسية العراقية في ترجمة نموذج توافقي نص عليه قانون إدارة الدولة بسبب عدم نضوج نموذج كهذا وعدم اكتمال شروطه. وبالتالي جرى التأسيس لنموذج ديمقراطي أكثري، أي نموذج يعيد – باستمرار – إنتاج نخبة حاكمة من الأكثرية الديمغرافية في البلاد. هذا النظام سيعيد انتاج حالة الإستقطاب الطائفي بصورة مستمرة، وسيجعل الأكثرية الديمغرافية متحكمة بسائر السلطات والمؤسسات السياسية في البلاد؛ بالسلطة التشريعية والبرلمان بما أنها الأكثرية فيه، وبالسلطة التنفيذية والحكومة المؤلفة من الأكثرية البرلمانية التي يمارس عليها البرلمان دور الرقابة، وبالسلطة القضائية – بسائر مفاصلها – التي يتولى البرلمان تشريع أنظمتها وتعيين مدرائها، وبالمؤسسات الرقابية والمالية والإعلامية التي ترتبط بالبرلمان او يشرف عليها ويراقبها. ونشير الى أن الدستور – الذي أتاح عرفا سياسيا بتوزيع مناصب الرئاسات الثلاث بين أشخاص ينتمون الى الجماعات العراقية المخلتفة – هو نفسه يمركز السلطة بيد البرلمان ورئيس الوزراء المختار من الأكثرية البرلمانية، في حين تكاد تكون صلاحيات رئيس الجمهورية صلاحيات بروتوكولية، وصلاحيات رئيس البرلمان مقيدة، بالضرورة، بالأكثرية التي تحكم البرلمان.

لم يتكرس في الوعي السياسي السنّي أن يجري التعامل مع المشروع السياسي الجديد على أساس حقوق الأقليات. ولا تزال الأنتليجنسيا السنّية تحاول دحض دعاوى الشيعة بالأكثرية بدعاوى مضادة. ولم يمنحوا، وبالتالي لم يطالبوا، بضمانات سياسية مماثلة للضمانات التي منحت للأكراد، بسبب اختزال مسألة الأقليات في العراق بالمشكلة الكردية. لقد كان من الممكن مثلاً أن يصمم “الفيتو” على مسودة الدستور الدائم لكي يراعي ويكتشف موقف الأقلية السنّية وتوزيعها الديمغرافي، كأن يصمّم ليتحقق بالأغلبية البسيطة لثلاث محافظات أو أربع أو بثلثي محافظتين او ما الى ذلك، فالمهم في فيتو من هذا النوع أن يتمكن من التعبير عن مواقف الجماعات، لا سيما الأقليات منها، لا أن يكون درجة حسابية جامدة مقدسة.

إن مركزة السلطة بيد الأكثرية السياسية الديمغرافية وحرمان الأقليات من قيودها على الأكثرية، والتشريع لنظام سياسي تسيطر عليه نخبة من الأكثرية الديمغرافية يعيد انتاجها باستمرار ولا يتيح انتاج سواها، ستخلق تناقضات خطيرة داخل النظام السياسي الجديد، وتجعل اللعبة الديمقراطية تبدو كأنها نظام مغلق لاحتكار الأكثرية للسلطة بما يحرم الأقليات من الوصول الى السلطة بطريقة تناوبية، وبما يفقدها اي شعور بالمشاركة فيها، ويخلق لديها شعوراً بأن هذا النظام ينطوي على وهم مشاركة أو مشاركة شكلية. هذا يعني أن تداول السلطة سيكون فعليا، تداولها داخل نخبة الأكثرية وليس بين الجماعات التي تكوّن العراق. سيتمركز مثل هذا الشعور لدى السّنة، لأن الأكراد – الأقلية الكبيرة الثانية في العراق – أكثر عناية بتوزيع السلطة بين المركز والأقاليم من عنايتهم بتوزيع السلطات الإتحادية بين الطوائف والإثنيات. وبالتالي، لن يسمح هذا الدستور للأقلية بأن تلتزم بهذا النمط من اللعبة الديمقراطية، بما أنه لا يعبّر عن مصالحها ولا يوصلها الى السلطة ابدا.

2 – طريق العراق في الإصلاح السياسي والإداري والأمني

 إن ما مرُّ به العراق من مشاكل وأزمات معقدة تهدد وجوده ومصيره ومستقبله كانت نتيجة حتمية للحرب التي شنّتها أمريكا وبريطانيا وحلفاؤهما على العراق وإحتلاله عام ٢٠٠٣ والتي صنّفها فقهاء القانون الدولي وشخصيات دولية عديدة من بينهم الامين العام السابق للأمم المتحدة بإنها (حرب عدوانية)، بسبب إن المبررات التي سيقت لشنّها ثبت إنها غير صحيحة وملفَّقة وقد إعترف المسؤولون الأمريكان والبريطانيون أنفسهم بذلك، كما لم يعد خافياً على أحد أضرار تلك الحرب وتداعياتها الخطيرة التي أدّتْ الى تدمير الدولة ومؤسساتها وتفتيت المجتمع ومنظوماته، والى قتل وملاحقة واعتقال وتهجير الملايين من العراقيين وخاصة أصحاب العقول والكفاءات وكوادر الدولة وعلماؤها وخبراؤها، تحت طائلة قوائم المطلوبين، وقانون الاجتثاث والمساءلة والعدالة وقانون المخبر السري وغيرها من القوانين والقرارات والاجراءات التي صدرت بعد الاحتلال خلافا للقواعد والاعراف الدولية .

إن المشروع الوطني للإصلاح هو الذي يحافظ على وحدة العراق وسيادته واستقلاله، وعلى هويته الوطنية، وينهي حالة الانقسام والصراع الديني والطائفي والعنصري، ويلغي سياسة المحاصصة والاقصاء ويشيع ثقافة العيش الآمن المشترك، ويحقق المصالحة الوطنية الشاملة والعدالة وتكافؤ الفرص بين جميع العراقيين بمختلف انتماءاتهم، ويشكل خارطة طريق لحل شامل وكامل ونهائي، ويعيد العراق لممارسة دوره الانساني ومكانته العربية والدولية، ويمكن أن يتضمن المبادئ التالية:

أ – تحقيق أوسع وأشمل مصالحة وطنية حقيقية بين فئات الشعب وفي مختلف المناطق والمحافظات وإزالة التوترات والاصطفافات الطائفية والعداوات التي تولدت أثناء الاحتلال الامريكي والايراني للعراق وبسببه .وتحقيق عودة سريعة للنازحين والمهجرين من داخل العراق وخارجه، وإزالة مخلفات الاحتلال ومحاربة الفساد وملاحقة الفاسدين وإرجاع الأموال المنهوبة ووضع خطة شاملة لبسط الامن ووضع حد للفوضى وحالة الأنفلات الأمني وحماية المواطنين وممتلكاتهم .ما يقتضي بناء القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وفق قوانين وأنظمة وتقاليد عمل وطنية، وحل الميليشيات المسلحة وحصر السلاح بيد الجيش والاجهزة الأمنية بِمَا يساهم في تحقيق السلام والأمن والاستقرار .

ب – تشكيل لجنة قانونية موسعة لإعادة كتابة الدستور، بما يحافظ على وحدة وسيادة واستقلال العراق، ويحدد طبيعة نظام الحكم والممارسة الديمقراطية والتعددية الحزبية، وضمان الحريات العامة والخاصة للمواطنين واحترام حقوق الانسان وحقوق الأقليات، ويفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ويوضح العلاقة بينها، ويفصل بشكل تام بين الدين والسياسة ويعالج المشاكل والصراعات والاختلافات في هذا المجال والتي سبّبها الاحتلال، ويتعامل مع المؤسسة الدينية في العراق بطريقة متوازنة بما يضمن إحترام كافة الاديان والمذاهب والطوائف والمعتقدات، وبما يضمن حرية الفرد في ممارسة طقوسه الدينية وفي اختياراته وانتماءاته المذهبية، وبما لايخل بأمن الدولة والمجتمع. ويضع حلاً نهائياً لقضية كردستان العراق، ويلغي سياسة المحاصصة والاقصاء والفيدرالية والاقاليم، ويؤسس لنظام وطني ديمقراطي تعددي يعتمد المواطنة أساساً في عملية الترشيح والانتخاب .

ج – يتم بناء نظام سياسي واداري حديث، يستفيد من تجارب الدول المتقدمة في مجال هيكلة مؤسسات الدولة وفي توزيع الصلاحيات والمسؤوليات بين الحكومة المركزية والمحافظات ويراعي الخصوصية والتجربة الوطنية العراقية في هذا المجال .ويتمتع بالحيوية والمرونة والكفاءة ويعتمد معايير عصرية حديثة في تقييم الأداء، واعتماد التقسيمات الإدارية التي تأسست عليها الدولة العراقية الحديثة وتطويرها واستحداث محافظات ومدن أخرى، بعيدا عن النزعات والتقسيمات الدينية والطائفية والقومية والمناطقية، وبما يضمن المحافظة على وحدة العراق الوطنية، ويحقق حالة من التوازن بين فئات وشرائح المجتمع، ويضمن التوزيع العادل للثروات وتنظيم الواجبات وتحديد الحقوق بين أبناء الشعب .

وتعتبر عملية بناء العراق وإعماره من الأعمدة الرئيسية لأي مشروع وطني للحل وذلك بسبب ماتعرض له العراق من تدمير هائل في دولته ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية، وبناه التحتية ومنظوماته الوطنية، لذا فإن مشاركة الدول المتقدمة في بناء العراق وباحدث مايمكن من التقنيات في مجال إعمار البنى التحتية والفوقية، يعتبر حجر الزاوية لنجاح وقبول أي مشروع وطني من قبل الشعب .

ثالثًا: فوارق ولا تشابه

1 – الاختلافات بين ثقافتي البلدين والشعبين بمقاربة الاحتجاجات الشعبية

طالما تُجرى مقارناتٌ بين العراق ولبنان من حيث النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية، غير أن الفروق بين البلدين والشعبين هائلة على رغم وجود أوجه التشابه.

ان السهولة التي قادت العملية السياسية في العراق الى النموذج اللبناني الجاهز ومحاولة بناء طائفية سياسية على هذا الوجه، بوصفها حلا وحيدا، لم تسمح للنخب السياسية العراقية بأن تلاحظ الفوارق الحقيقية بين لبنان والعراق؛ ففي لبنان – على عكس العراق الذي يتمتع بأكثرية ديمغرافية متفوقة على نحو واضح – ليس هناك أية أكثرية ديمغرافية، بل ثمة توازن ديمغرافي معقول بين الجماعات اللبنانية، التي كلها أقليات. هذا التوازن لا يسمح بأن تقيّد صلاحيات رئيس البرلمان بأكثرية طائفية أو إثنية، كما أن لرئيس الجمهورية صلاحيات أوسع مما قرره الدستور العراقي.

لقد اتضحت الاختلافات بين ثقافتي البلدين والشعبين بجلاء في الاحتجاجات الأخيرة في كل منهما، التي وُوجهت بقسوة وعنف في العراق بينما مرت بهدوء وسلام في لبنان، وفي هذا درس بليغ لمن يجري هذه المقارنات غير الدقيقة خصوصا من العراقيين الذين يخشون (لبننة) العراق!.

لقد تعاملت الأجهزة اللبنانية والجيش مع الاحتجاجات وفق القانون وبشكل متحضر، كما يتطلب أن تتعامل الدولة العصرية مع مواطنيها. أما في العراق فقد تعاملت الأجهزة (الأمنية) العراقية بقسوة ووحشية منقطعة النظير. فلم يحصل في التأريخ الحديث أن يسقط 7 آلاف شخص بين قتيل وجريح خلال 5 أيام في مظاهرات سلمية كفلها الدستور، كما حصل في العراق بين الأول الخامس من تشرين الأول 2019، بينما لم نسمع من حكومة العراق (المنتخبة) غير التبريرات الهزيلة واعتبار القتلى (شهداء)! وكأن هذا هو الحل الأمثل للمشكلة. لقد برهن رئيس الوزراء في حينه، عادل عبد المهدي، على أنه شخص ضعيف ومتمسك بالسلطة بأي ثمن، وقد سقطت كل ادعاءاته السابقة، بما فيها الدينية، إذ لم يستجِب لنداء المرجعية الشيعية التي حمّلته المسؤولية على الجرائم التي اُرتُكِبت بحق المتظاهرين الشبّان، وطالبت بإجراء تحقيق مستقل خلال أسبوعين.

كان رد عبد المهدي هو تكليف فالح الفياض، المعروف بشخصيته الهزيلة وتفكيره المسطح وتبعيته المطلقة لإيران، وموقفه السلبي المعلن من المظاهرات والحريات العامة، بترأُس لجنة التحقيق! إن نتائج تحقيق كهذا، معروفة سلفا، وهو سيقول حتما إن “هناك قوى تخريبية  قد اندست بين المتظاهرين وهي التي مارست القتل الذي لم يقتصر على المتظاهرين بل تعداه إلى الأجهزة الأمنية”!

2 – مجتمع لبرالي عصري مقابل هيمنة الإنتماء القبلي والديني

صحيح أن هناك تشابها بين العراق ولبنان من حيث وجود التنوع الديني والطائفي والثقافي، واتباع نظام الديمقراطية التوافقية (consociational democracy) أو المحاصصة الطائفية (confessionalism) وما ينتج عنهما من فساد وتحكم زعماء الطوائف، لكن هناك فروقا ثقافية واسعة بين البلدين والشعبين. أهم هذه الفروق هي أن المجتمع اللبناني مجتمع لِبرالي عصري، لديه مشتركات راسخة يحترمها الجميع، بينما المجتمع العراقي محافظ تهيمن عليه القيم الدينية والقبلية والتبعية لرجال الدين، ولم يستطع حتى الآن أن يؤسس لمشتركات يجتمع عليها العراقيون.

أهم علامة على تحضّر وعصرية المجتمع اللبناني هي حصول المرأة اللبنانية على حقوقها، وحتى القوى المحافظة (والمسلحة) لا تجرؤ على سلبها أيا من تلك الحقوق، بل تعترف بوجودها ودورها الريادي في المجتمع، وقد رأيناها تشارك بقوة في الاحتجاجات، وهذا لم يحصل في العراق الذي اقتصرت الاحتجاجات فيه على الذكور في الغالب.

في العراق، مازالت المرأة تناضل من أجل الحصول على أبسط الحقوق، بل إنها فقدت حتى الحقوق التي حصلت عليها بعد قيام الجمهورية عام 1958. حرية المرأة مازالت مقيدة بقيود دينية واجتماعية قاسية وهي لا تستطيع القيام بأبسط الواجبات أو النشاطات دون أن يكون الرجل بجانبها، قائدا وموجها، وهذا الوضع سائد في معظم مناطق العراق، باستثناء العاصمة التي لها وضع ثقافي خاص لكنه يسير هو الآخر نحو المحافظة بسبب هيمنة القوى الدينية والمليشيات المدعومة إيرانيا على المجتمع.

صحيح أن القانون العراقي يضمن للمرأة تمثيلا في البرلمان بنسبة 25%، لكن هذا التمثيل بقي شكليا حتى الآن، فأعضاء البرلمان النساء يختارهن الرجال ولا يُنتخَبن في أكثر الأحيان على أساس تبنيهن قضايا المرأة وإنما على التزامهن بتوجيهات ومتبنيات قادة الجماعات السياسية التي ينتمين لها، فهن في الواقع خيارات ذكورية بامتياز، ولا يمثلن النساء في معظم الأحيان.

لا يتأثر المجتمع اللبناني غالبا بآراء رجال الدين المحافظة، بل ظل مجتمعا لِبراليا على رغم وجود المحافظين فيه الذين لا تؤثر لِبرالية المجتمع على وجودهم وتمسكهم بعقائدهم ونمط حياتهم، لكن المشكلة تحصل عندما يقود المحافظون الدولة، لأنهم يسعون دائما لفرض رؤاهم الدينية والاجتماعية وفهمهم المحدود للسياسة والعلاقات الدولية على المجتمع، وبذلك يعم الضرر على البلد ككل.

بعبارة أخرى، المجتمع والدولة لا يتضرران من وجود القوى اللِبرالية في الحكم، لأنها تسمح بالتعددية وتضمن الحريات العامة للجميع، صحيح أن هناك نماذج منفتحة لقوى سياسية محافظة، مثل حزب النهضة التونسي، ولكن هناك أسبابا ثقافية تتعلق بطبيعة المجتمع التونسي وتأريخه، وليست هذه المساحة مجالا للخوض فيها، ولكن القوى الدينية بشكل عام تسعى للهيمنة على تفكير المجتمع وسلوكه ونشاطاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وجعله كتلة بشرية تتحرك وفق سياقات محددة.

أما المجتمع العراقي فتتناوبه التأثيرات الدينية والقبلية ذات اليمين وذات الشمال، فإن أفلت من تأثير القوى الدينية، هيمنت عليه القوى القبلية والعائلية والقومية المحافظة التي تسعى لأن تتحكم به وتسجنه في كهوفها الماضوية وتجعله تابعا لها.

مازالت المرجعيات الدينية تتدخل في شؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومع أن تدخلاتِها ليست سلبية دائما، ولكن الكثير منها لا يساعد على تعزيز الهوية الوطنية العراقية أو الاندماج العراقي في المجتمع الدولي والاقتصاد العالمي الذي يحتاجه المجتمع الحديث. والمشكلة الأكبر التي يواجهها العراق هي التدخل الإيراني ذو الطابع الديني والمذهبي ظاهريا، لكنه في الحقيقة تدخل عسكري وسياسي واقتصادي وثقافي، ويمثل استراتيجية بعيدة الأمد تهدف إلى إضعاف العراق، الذي كان على مر العصور منافسا سياسيا وثقافيا وعسكريا واقتصاديا للدولة الفارسية.

في الخلاصة

أخيراً، وأمام التشتت العربي، وعدم وجود سياسة عربية متماسكة لدعم العراق، والفهم السطحي الأمريكي لمشاكل المنطقة ومعالجاتها القاصرة، وانسياق الإدارة الأمريكية وراء توجهات إسرائيل، تمكنت إيران من تحقيق المزيد من الهيمنة على مقدرات العراق ودول أخرى في المنطقة.

أوجه التشابه بين لبنان والعراق محدودة، ففي لبنان دولة عصرية وشعب لبرالي متحضر وطبقة مثقفة متنفذة وصحافة حرة نسبيا ووسائل إعلام تعكس تعددية المجتمع الذي يتمتع بإجماع على مشتركات وطنية عابرة للتنوع الطائفي، مع عدم إنكار المشكلة الطائفية والفساد والفشل الحكومي الناتج عنها في تحديث البنى الأساسية للبلد وتحسين الخدمات العامة.

أما العراق فمازال مجتمعه يرزح تحت نير القوى الدينية القروسطية والقيم القبلية المتخلفة وطبقة سياسية غير جديرة بممارسة السلطة وغير قابلة للتطور وغير مؤهلة أو قادرة على فهم مشاكل المجتمع ولا تمتلك الأهلية والجرأة على تشخيص العلل واجتراح الحلول، بل لا توجد حتى الآن مشتركات وطنية مُتفقٌ عليها يلتزم بها العراقيون جميعا.

لا شك أن الوعي العراقي بضرورة قيام دولة عصرية ترعى المواطنين جميعا دون تمييز هو في تصاعد، وقد مثَّلت احتجاجات البصرة لعام 2018 وما تلاها حتى اليوم، بدايةً واعدة لتشكُّل إجماع وطني باتجاه إقامة مجتمع عصري.

في الخلاصة، وفي المجتمعين المتقاربين، المعاناة واحدة من القبول بدورللأجنبي والتستر بالطائفية، فإذا كان قولاً سليماً أنّ الطائفية أيديولوجيةٌ شاملة ولا تُلغى إلا بأيديولوجية شاملة بديلة منها كالعلمانية، فإن العلمية في المشاهدة التاريخية لمجتمعنا الواحد في تواصل حقبةٍ وانصهار جماعاته وإتنياته في بوتقة الحياة الواحدة لتكوين شخصيّتنا الحضارية الاجتماعية الواحدة هي أساسُ العلمنة التي تقوم على أنّ ما يجمعنا ليس حوار الطوائف وعقدها التوافقي المعرَّض للانهيار إذا ما اختصمت، بل هو حياتنا وتاريخنا ومصيرنا الواحد في وعي هويّتنا الواحدة الموحّدة المستمدّة من ذلك كلّه.