العميد ناجي ملاعب – باحث في الشؤون الأمنية والإستراتيجية
ثانياً: مصر – إثيوبيا وسد النهضة
أ. أخطار سد النهضة على الأمن القومي المصري
تشير أغلب الدراسات، إلى أن محاولات إثيوبيا التهوين من أخطار السد يتم بمشورة الخبراء الإسرائيليين، فعلى موقع وكالة التعاون الدولي الإسرائيلية ماشاف – MASHAV “على موقع “فايسبوك” تاريخ 3/12/2019، بالإشارة إلى أن 20 خبيراً إسرائيلياً في مجال المياه والزراعة يشاركون في تقديم الخبرات لإثيوبيا في هذا المجال(16)، لكن النسبة العظمى من الخبراء المصريين وغيرهم يؤكدون المخاطر الكبرى المحتملة على مصر، وتتمثل في الآتي(17):
1. قيام السد على منطقة فالق زلزالي، فإن احتمال انهياره لاحقاً تحت تأثير زلزال يزيد عن 4 درجات على مقياس ريختر قد ينتهي إلى إغراق مساحات واسعة من مصر والسودان (التي يبعد السد عن حدودها نحو 40 كم فقط)، مما قد يقود لخسائر بشرية كبيرة من المصريين والسودانيين. ووفق المخططات الأمريكية للمشروع، والتي بدأت لفترة تعود للعام 1964 من خلال مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي – US Bureau of Reclamation، فإن المنطقة التي سيقام فيها السد تتسم بالهشاشة الجيولوجية التي تجعلها أقل قدرة على تحمل تخزين أكثر من 11 مليار متر3، فهي امتداد لما يسمى الأخدود الإفريقي أو حفرة الانهدام الكبير -Great Rift Valley(18)، ولعل ذلك هو ما دعا الخبراء المصريين إلى دعوة إثيوبيا لتقليص التخزين من 74 مليار متر3 إلى أقل من 30 مليار متر3.
2. تعتمد مصر بنسبة تتراوح بين 80% – 85% من حصادها المائي على النيل، ويقدر الخبراء أن ملء سدّ النهضة خلال فترة ما بين 3 – 5 أعوام سيقود إلى تراجع 20% من حصة مصر البالغة 55.5 مليار متر3، طبقاً لاتفاقيتي 1929 و1959، وعليه يتراجع نصيب الفرد المصري من المياه من 2,500 متر3 سنوياً إلى 600 متر3.
3. إن ملء سد النهضة قد يقود إلى أن يبقى السد العالي فارغاً لمدة 12 عاماً طيلة فترة الملء الإثيوبي، وهناك خلاف بين مصر التي تطلب أن يتم ملء السد خلال 10 أعوام، وإثيوبيا التي تسعى لملئه خلال 3 أعوام فقط، وهو ما قد يقود إلى سلسلة من النتائج السلبية الكبرى أهمها(19):
- جفاف الري عن مساحة واسعة من الأراضي الزراعية، مما سيؤدي إلى تقليص المزروعات التي تحتاج كميات كبيرة من المياه مثل الأرز، حيث يقدر أن تنخفض المساحة المخصصة لهذا المحصول الأهم لسلة الغذاء المصري من 1.8 مليون فدان إلى 724 ألف فدان، أي نحو 40% من حجم المساحة الحالية في العام 2020.
– انخفاض منسوب المياه الجوفية وخسارة مصر ما بين 11 – 19 مليار متر3 من المياه، وتداخل مياه البحر مع المياه في الدلتا المصرية مما يقود إلى ارتفاع نسبة الملوحة في التربة وجعلها أقل صلاحية للزراعة، والتلوث وتهديد الثروة السمكية، بالإضافة إلى تراجع الطاقة الكهربائية في مصر بين 25% – 40%.
4. إن مواصلة إثيوبيا لمشروعها قد يغري بقية دول الحوض الأخرى لبناء سدود مماثلة مما يفاقم الأخطار السابقة الذكر على مصر والسودان، ويغرق الشرق الإفريقي ومنطقة حوض النيل في نزاعات عميقة ومدمرة.
بـ. الإسهام الإسرائيلي في مشروع سدّ النهضة الإثيوبي
لم يكن نهر النيل بعيداً عن الفكر الاستراتيجي الصهيوني منذ البداية، إذ إن فكرة إنشاء مشروعات صهيونية بهدف إيصال مياه النيل إلى إسرائيل بدأت العام 1903 من خلال دعوات طرحها بشكل واضح ثيودور هرتزل – Theodor Herzl، وعادت الفكرة للظهور بشكل واضح خلال الفترة 1964 – 1974، وتجددت مرة أخرى في فترة التسعينيات من القرن العشرين.
ومعلوم، أيضاً، أن موضوع إيصال مياه النيل إلى النقب في فلسطين المحتلة كان ضمن بنود المناقشات المصرية – الإسرائيلية في مفاوضات كامب ديفيد – Camp David Accords، عامي 1978 – 1979، وبدأت هذه المناقشات بشكل واضح مع دراسة اليشع كالي – Elisha Kali عام 1974، ومشروع شاؤول أرلوزوروف – Shaul Arlozorov الذي عرف بمشروع “يؤر” العام 1977(20)، وكلاهما من خبراء هيئة المياه الإسرائيلية. وترتب على هذه الأفكار طرح مشروع قناة جونجلي – Jonglei Canal، في جنوب السودان، كوسيلة لتعويض مصر عن المياه التي ستذهب للنقب طبقاً لذلك، وهو ما أفرز مشكلات عديدة في جنوب السودان(21)، أسهمت في نهاية المطاف مع عوامل أخرى في تأجيج النزاع في السودان لينتهي بانفصال الجنوب وتحوله إلى إحدى الدول الإفريقية الأكثر تقارباً مع إسرائيل، هذا من جانب.
من جانب آخر، يبدو ملفتاً الاهتمام الواضح في الجامعات الإسرائيلية بالمياه في إفريقيا خصوصاً تلك التي لها صلة بأقطار عربية، وفي مقدمتها دول حوض النيل، وهو ما يعني أن إسرائيل ترى في النيل مصدراً إما للضغط على مصر – من خلال مساندة مشروعات دول الحوض بشكل يؤثر على حصتها من مياه النهر – أو لفتح مجال تطبيع معها من خلال مشاريع مشتركة تسهم خطوة للأمام في تحويل الصراع العربي – الصهيوني إلى صراع “غير صفري – non-zero sum game”.
وتقف إثيوبيا على رأس الدول الإفريقية التي تحظى بإهتمام الدوائر السياسية الإسرائيلية، سواء لما تروجه الدعاية الإسرائيلية لجذور تاريخية وأخرى حديثة ومعاصرة، سواء زمن الامبراطور هيلا سيلاسي – Haile Selassie (أسد يهوذا)، أم الإبعاد التي ركز عليها رئيس الوزراء السابق، بنيامين نتنياهو – Benjamin Netanyahu، في خطابه عام 2016 أمام البرلمان الإثيوبي (مشيراً إلى الملك سليمان)، أم من خلال الإشارة للروابط السكانية (يبلغ عدد اليهود الإثيوبيين في إسرائيل نحو 140 – 150 ألف نسمة)، ناهيك عن تطور العلاقة الإثيوبية – الإسرائيلية، خصوصاً الدعم العسكري والتقني الإسرائيلي في فترة الصراع الإثيوبي – الأرتيري، وفي مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وهو ما يؤكد الاهتمام الإسرائيلي الكبير بتطوير العلاقة بين تل أبيب وأديس أبابا.(22)
وعند متابعة الدور الإسرائيلي في تأجيج موضوع سد النهضة بين مصر وإثيوبيا خلال الفترة 2011 – 2020، سنتوقف عند الملاحظات التالية التي تستحق التأمل وفهم دوافعها(23):
1. تؤكد مصادر مختلفة وجود طابق كامل في مبنى وزارة المياه والكهرباء الإثيوبية يقيم فيه خبراء المياه الإسرائيليون، وهم يقدمون الخبرة التفاوضية والفنية للفرق الإثيوبية، وأكد ذلك وزير الري والمياه المصري السابق، محمد نصر علام، وكرره مسؤولون سودانيون من ذوي العلاقة بالمؤسسات الخاصة بالري والمياه. كما أعاد ذكره نائب رئيس الأركان المصري محمد علي بلال، ماير/أيار 2013، متحدثاً عن وجود أعداد كبيرة من الإسرائيليين يعملون في السد الذي يتم بناؤه بتمويل غربي وأمريكي (البنك الدولي، وإيطاليا، وبنك الاستثمار الأوروبي)، وبنك التنمية الإفريقي، والصين، وإسرائيل.
2. نشاط الشركات الإسرائيلية، لا سيّما تلك التي لها علاقة باحتياجات بناء سدّ النهضة الإثيوبي، حيث تتواجد بشكل فاعل الشركات الإسرائيلية مثل: شركة سوليل بونيه – Solel Boneh للإنشاءات في كل من كينيا، وإثيوبيا، وأوغندا، إلى جانب شركة أغروتوب – Agrotop للزراعة، وشركة كور – CORE للإلكترونيات، وشركة موتورولا الإسرائيلية – Motorola Israel للكهرباء والماء، وشركة كارمل – Carmel للكيماويات.
كما رفعت إسرائيل من حجم استثماراتها في قطاع الطاقة، العام 2018، بقيمة 500 مليون دولار من خلال شركة جيجاوات جلوبال – Gigawatt Global، وهي شركة لها علاقات مع 10 جامعات إثيوبية، وهناك 10 مؤسسات أخرى إسرائيلية تعمل في إثيوبيا. كما أكد النائب المصري، أحمد العضوي، أن النشاط الإسرائيلي في إفريقيا، وخصوصاً في إثيوبيا، يستهدف التأثير على المصالح المصرية وأبرزها حصة مصر من النيل من خلال الدعم الإسرائيلي لمشروع سد النهضة.(24)
3. بعد تصاعد الخلاف بين إثيوبيا ومصر حول آثار السد الإثيوبي، تواترت تقارير إسرائيلية، وغربية، وعربية، العام 2019، عن قيام إسرائيل بنصب نظام دفاع جوي من نوع “سبايدر إم آر – Spyder-MR” حول سدّ النهضة الإثيوبي يمكنه من إسقاط الطائرات الحربية من على بعد 5 – 50 كم، وقد قامت 3 شركات إسرائيلية، وهي شركة رفائيل – Rafael المتخصصة في الصواريخ وفرع إم.بي.تي – MBT للصواريخ التابع للصناعات الجوية الإسرائيلية وشركة أنظمة إلتا – Elta المتخصصة في الرادارات، بإنجاز هذا النظام الدفاعي لإثيوبيا.
4. هناك ترابط بين المساندة الإسرائيلية لإثيوبيا في موضوع سدّ النهضة وتنامي العلاقات المختلفة بين الطرفين؛ ففي الجانب الاقتصادي يصل حجم التبادل التجاري بين إثيوبيا وإسرائيل، حتى العام 2019، نحو 300 مليون دولار(25)، ويصل عدد المشاريع الإسرائيلية العاملة في إثيوبيا إلى 187 مشروعاً أغلبها في الزراعة، حتى العام 2017.(26)
من جانب آخر، تزايد التنسيق الأمني بين الطرفين بعد حادثين هما تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام العام 1998 من ناحية، والهجوم على أحد المتاجر اليهودية الكبرى في كينيا من قبل مجموعة “الشباب” الصومالية العام 2013. وتدرك إسرائيل أهمية إثيوبيا لتطل منها على المحيط الهندي والبحر الأحمر الذي تمر منه 20% من تجارتها الخارجية، ناهيك عن الأطلال على منابع النيل، وتتعزز كل هذه الجوانب بالتعاون في التصنيع والتدريب العسكري.
5. التحريض الاعلامي والسياسي على مصر؛ فقد أشارت الصحف الإسرائيلية إلى أن السياسات المائية المصرية أضرت بالمصالح الإثيوبية، فقد ذكرت صحيفة تايمز أوف إسرائيل – The Times of Israel في أحد مقالاتها إلى أن “عواقب هذه السياسات المصرية قد أضرت بشدة بإثيوبيا على مدى عقود، وإن إثيوبيا، الغنية بالمياه، مكبلة باتفاقيات ملزمة قانوناً بعدم استخدام مواردها المائية لتوفير الشراب لسكانها البالغ عددهم 90 مليون نسمة، أكبر من سكان مصر، وهو ما جعلها تعاني فترات طويلة من الجفاف والمجاعة”.
وبناء عليه، يجب على صانعي السياسات والممارسين والباحثين في العالم العربي تركيز الإهتمام على دور المياه، واعتماد السياسات التي تحول إدارة وتخصيص الموارد المائية إلى قوة تربط المجتمعات بعضها ببعض، إذ ستبقى السدود التي تبنى على منابع نهر النيل، في إثيوبيا، ونهري دجلة والفرات، في تركيا، خطراً حقيقياً إضافياً يهدد الأمن المائي العربي، الذي يشكل خطراً يضاف إلى الأخطار الكبرى التي تهدد الأمن القومي العربي اليوم.
يستخلص الدكتور وليد عبدالحي في دراسته أن إسرائيل معنية بإضعاف أيّ دولة عربية “أكثر” من عنايتها بإضعاف الأنظمة العربية مع أهمية إضعاف الأنظمة، ويعتقد بأنها تدرك مركزية المكانة المصرية في النظام الإقليمي العربي؛ وعليه، فإن تغير النظام في مصر إلى نظام معادٍ لها سيكون له مخاطر أمنية كبيرة علىيها إذا كانت مصر قوية، وعليه لا بدّ من إبقائها ضعيفة سياسياً (بإضعاف مركزيتها الإقليمية والدولية)، واقتصادياً (بحرمانها أو التأثير على مواردها المركزية ومنها النيل)، وعسكرياً (بإغراقها في مواجهات داخلية في سيناء)، وعلى حدودها مع ليبيا والسودان (حول حلايب وغيرها)، ومع إثيوبيا…إلخ.(27)
جـ. استعدادات عسكرية وامنية لمواجهة العواقب المحتملة
في تصعيد واضح لسقف خياراتهما في أزمة سد النهضة، مع اقتراب إثيوبيا من الملء الثاني للسد على نهر النيل، نظمت مصر والسودان مناورة عسكرية ضخمة تحت اسم “حماة النيل”، وبمشاركة قوات برية وبحرية وجوية. أهداف التمرين – وفق المتحدث بإسم الجيش المصري – تشمل “تأكيد مستوى الجاهزية والاستعداد للقوات المشتركة، وزيادة الخبرات التدريبية للقوات المسلحة لكلا البلدين.ويأتي هذا التمرين استمراراً لسلسلة التدريبات السابقة ‘نسور النيل 1’، و‘نسورالنيل 2’.”
بعد الأخذ بعين الإعتبار “تلويح” وزير الخارجية المصري، سامح شكري، بردِّ فعل مصري – رفض أن يحدده – في حال تجاوز أديس أبابا الخطوط الحمراء في الأزمة، فإن الموضوع مفتوح على احتمالات لا تلغي الخيار العسكري، فهل يشكل هذا التمرين وسيلة للضغط المعنوي على إثيوبيا لتأجيل الملء الثاني لسد النهضة، أو أن الهدف من تواجد القوات المصرية هو حماية السودان من أي رد فعل إثيوبي، في حال توجيه القوات الجوية المصرية ضربة عسكرية لسد النهضة.
يتبع