القاذفات الاستراتيجية .. رمز الهيمنة الأمريكية (الجزء الثالث)

القاذفات الاستراتيجية .. رمز الهيمنة الأمريكية
القاذفات الاستراتيجية .. رمز الهيمنة الأمريكية

علي الهاشم – باحث كويتي مختص بالشؤون الدفاعية

ظهرت الطائرات القاذفة كسلاح هجومي من الدرجة الأولى، وسرعان ما تحولت إلى أداة للتدمير ذات طابع قياسي نتيجة لما تقوم به من تدمير واسع النطاق. وإذا كان يراد بالقصف الجوي تقويض دور العدو من الناحية العسكرية والميدانية فقط وهزيمته، فإن أداة الحرب هذه ونقصد بها القاذفة قد تحولت تحولا خطيرا في تحقيق أهدافها، فلم تعد فقط منطوية على إيقاع الهزيمة بجيوش العدو أو النيل من قواته وحسب. بل أضيف لتلك الأهداف أيضا الرغبة في التغلب على كل مصادر للمعارضة عن طريق تحطيم قوى الشعوب وإجبارها على الاستسلام والخضوع التام، عبر الإغارة على المدن وجموع المدنيين حتى يتم النيل من عزائمهم فلا تمتد بهم سبل الكفاح وينتهي بهم الأمر سريعا إلى الاستكانة والتسليم.

وهو ما تمثل بمشروع إنتاج القاذفة الخفية B-2 الذي بدأ في أول الثمانينات من القرن الماضي لكن فكرته في حقيقة الأمر تعود في الأصل لما بعد الحرب العالمية الثانية حينما  أقدم المهندس الأمريكي جاك نورثروب الملقب بـ “ابو الجناح الطائر” في عام 1947 في إحدى المناسبات بالتحدث حول مبدأ الجناح الطائر  وقدم تصاميما ثورية لعدة قاذفات قبل  B-2 تمثل في XB-35 ذات الدفع المروحي التوربيني ثم YB-49 ذات الدفع النفاث بالتعاون مع سلاح الجو الأمريكي وقد نجح كلا النموذجين في التحليق لكنهما تعرضتا لحوادث تحطم نتيجة عدم توفر التكنولوجيا اللازمة في ذلك الوقت وتطلب ذلك ثلاثة عقود كي يتحقق الحلم ولكن بعد وفاة نورثروب.

وفي عام 1988 نشر سلاح الجو الأمريكي صورا أولية لشكل القاذفة الخفية B-2 وسط ذهول شديد من قبل الحضور ودهشة مصحوبة بحسرة من قبل السوفيات الذين صعقوا من شكل الطائرة الغير مألوف بتاتا.

جاء شكل B-2 على هيئة جناح كامل عملاق ذو حواف مشرشره على شكل حرف W باللاتينية فيما طمر بدنها بالكامل في الجناح ووضعت فتحات دخول الهواء فوقه مع عدم وجود أي دفة رأسية ولا مجموعة ذيل أفقي.

طائرة من طراز بي-٢ في مهمة إعادة التزود بالوقود فوق المحيط الهادئ

تعتبر B-2 أكبر طائرة يتم استخدام المواد المركبة في صناعتها في العالم حيث استخدمت ألياف الكربون والكفلار المدعمة بالتيتانيوم وهي بذلك ذات بصمة رادارية بالغة الانخفاض حتى قبل طليها بمواد ماصة للرادار كما يتم تغيير تلك المواد أربعة مرات خلال عمرها العملي.

وامكن التخلص من خطوط الدخان البيضاء التي تخرج من العادم Contrails حينما تحلق على ارتفاع شاهق عن طريق إضافة مادة حمض كبريتي مشتقة من الكلوروفلور كما يعمل الشكل المنشاري او المشرشر للطائرة على شكل حرف W على خلط الهواء البارد بذلك الحار الخارج من العادم مما يعمل على خفض بصمتها الحرارية.

صممت قاذفة B-2 في باديء الأمر كي تنفذ مهام القصف النووي ضد أهداف إستراتيجية في عمق الاتحاد السوفياتي وذلك في الفترة الأخيرة من الحرب الباردة. كذلك أوكل إليها تدمير المنصات المتحركة للصواريخ البالستية حيث ان قدراتها على الخفاء ومداها البالغ الطول يمكنها من البقاء فوق العدو ورصد تحركات منصاته التي يصعب تدميرها كونها لا تقبع في مكان معين.

صممت قاذفة B-2 كي تنفذ مهام القصف النووي ضد أهداف إستراتيجية في عمق الاتحاد السوفياتي

وزودت قاذفة B-2 الخفية بمنظومة رادارية متطورة جدا من نوع رايثيون APQ-181 ذو المسح الالكتروني متعدد الأنماط وتمت إضافة خاصية تتبع التضاريس وذلك عند الحاجة للتحليق على ارتفاع منخفض جدا وهو ما يفسر تعديل النموذج الخاص للقاذفة ناحية الجهة الخلفية للبدن من حافة واحدة مستوية مدببة الأنف الى الشكل المشرشر W وذلك ايمانا من قبل جنرالات سلاح الجو الأمريكي ان التحليق البالغ الانخفاض لا يزال مدرجا حين تضطر القاذفة الى ذلك الأمر الذي يصعب من التنبؤ بقدومها من قبل العدو.

شهدت الحرب على صربيا والجبل الأسود في يوغوسلافيا عام 1999 الاستخدام الأول للقاذفة البالغة الخفاء والغرابة والسرية  B-2  ذات الشكل الهندسي الذي على شكل جناح مثلث عملاق طائر وقد امتد استخدامها بعد أن كان مقصورا فقط للمهام الاستراتيجية النووية قبل ذلك ليشمل عدة مهام أخرى لم تصمم في الأساس لها وهي القصف التقليدي والجراحي حسب نوع المهمة.

وفوق افغانستان قامت بمهام قصف في بداية الحرب على نظام طالبان وتنظيم القاعدة عام 2001 بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر المشؤومة، سجلت خلالها رقما قياسيا بلغ 44 ساعة من التحليق المتواصل انطلاقا من قاعدتها بالولايات المتحدة “وايتمان” بولاية ميسوري تخللتها عدة عمليات تزود بالوقود في الجو وصولا إلى الهدف في العمق الأفغاني ومن ثم العودة مرة أخرى لقاعدة انطلاقها لتصبح اطول مهمة قتالية في التاريخ.

لقد منحها شكلها الهندسي الغير مالوف كما اشرنا الى ذلك في البداية أداء متفوقا من الناحية الايروديناميكية حيث بامكانها ان تقطع من دون توقف ومن دون عملية تزود بالوقود في الجو وحدها مسافة تصل إلى أكثر من 11 ألف كلم في حين تتضاعف تلك المسافة او المدى الى 10 الف او حتى 20 في حالة إعادة التزود بالوقود جوا ويمكن لها أن تحلق بعد ذلك دون توقف لكن هذا المنطق يفقد قيمته حين نتيقن من ان إمكانيات الطائرات بمجمل عام تبقى مرتبطه بطاقة تحمل طياريها.

القاذفة الأمريكية B-2 spirit

وخلال مشاركتها في حرب العراق عام 2003 أوكل إليها مهمة قصف الارتال المدرعة في بداية تلك الحرب أما في عام 2011 فقد تمكنت طائرة واحدة فقط منها من تدمير 80% من الدفاعات الجوية الليبية ممهدة الطريق بعد ذلك لسقوط نظام القذافي هناك الامر الذي يبين قوة هذه القاذفة على إحداث تغير في مجريات الأمور.

ولكي نوضح مدى قدرة هذه القاذفة الاستثنائية والتي لا تمتلك عدا الولايات المتحدة الأمريكية مثلها، ذكر طياران برتبة رائد في سلاح الجو الأمريكي عام 2002 خلال كشفهما لصورة جسر في صربيا في نوفي ساد يقع على نهر الدانوب تم ضربه من قبل B-2 بقنبلة تقليدية ليوضحا أن هذه الصورة لم تكن صورة فوتوغرافية بل صورة رادارية تم التقاطها ومعالجتها فوريا بواسطة الرادار الماسح المزودة به القاذفة الخفية B-2 من طراز APQ-181 الذي يعمل بمبدأ low probability of intercept radar – synthetic aperture radar picture  حيث يقوم الرادار بمسح معالم الهدف عبر تسليط اشعته عليه ثم يقوم معالج بتحويل ذلك المسح الى صورة تشبه النيغاتيف (الابيض والاسود) تماما وكان كاميرة فوتوغرافية قد صورته.علما بأن هذه الصورة الفائقة الدقة قد تم التقاطها بذلك الرادار والقاذفة على ارتفاع 40 الف قدم في ليل حالك الظلمه مخترقا طبقة سميكة من الغيوم علما أن نفس الجسر حاولت مقاتلات  F-15E  وأخرى ستيلث من طراز F-117 قصفه دون أن تتمكن من ذلك بسبب الغيوم والليل الحالك بينما تمكنت قامت به في طلعة واحدة B-2 من ذلك خلال طلعة واحدة محيلة إياه إلى ركام.

يتبع..

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*